الصفحة الاولى والثانية من رواية: مسير ونثار
السّماءُ يمُشّطها السّحابُ على وجه فالح وتحته، العين جزلى والوادي بصدره شاغر... جلس على الكرسيّ والصمت يلمُظ شفتيه، جلس يُغازل الخيال والخيال يرُدّه إليه، جذب معطفه البنّيُ وروحه إلى غابات الزّيتون المقطُوعة والأغصان المبتوُرة وإلى الأرض المُشوّهة... . التشّويه نسج ملامحه على أرض ما استوت رغم دقّ الطّبول وما ركنت رغم الشّرور والتزييف بسط خريفه على وجهها فأمست قاحلة رغم ملامح الزّينة البادية عليها. أصغى إلى أصوات الندّاء: صياح الثكّالى وصهيل أصوات لا هي بالبشرية ولا هي بالجنّية ... نداءات تتمطّى في جوانبه رغم صيحات الشّباب النّاشطة داخله ومجاميع أصوات الانفعال واللّذّةّ. جلس وحيدا يُقُارع انفعالات تراصّت ونداءات تدافعت إلى عقله وقلبه: أيترُكها وحيدة وهي التي لم تجد ملجأ تحلّ به سواه؟. أيضع قُطُنا في أذنيه حتىّ يرُدها ولكن كيف له ذلك وقد سرت في كيانه نار أشعلت الذكّرى والخيال، العقل والنّفس، النّفس والجسد المكلوم. ظنّ أنّه بين سراديب متاهة لا يعرف مخرجا منها أو مدخل نور رغم الأنوار التي أحاطت بالمُدن والشّوارع والأزقّة. هاهو ذا يجلد ذاكرة لا ربيع فيها ولا زهر، ذاكرة فقيرة من الأفراح ومن أصوات النسّاء والصّخب، ذاكرة ترفل بأصوات عِجاب وبقايا الهياكل والجنون المصبوغ بالنّقمة... ولكن ماذا لو كانت الظّلمة ظلمة عقله؟. ماذا لو كانت ظلمته بفعل قهوته السّوداء التي أكثر فيها السّاقي السّواد؟. ظلّت الندّاءات تُلِحُّ عليه وهو الثمّل بالوجع،ازدادت حدتّها حدّ التأّلّم فرأيته يزُمجر ويُزمجر.
كان قد ترك الماضي وارتحل إلى الصّخب والمرح، تُقُاسمه فيه قهوته السّوداء المرّة مرارة الأيّام والسّجائر ذات الكعاب البيض، يلاحقه هاجس عشق أرض. انحنى على الكرسيّ، عاج على ملهى الكتاب كي يسلب ما رسخ. انتقل بين أوراق صفراء نسجتها رائحة الصّحراء ونفثتها الرّمال في كلّ الأوطان وأخرى بيضاء عجّ بها السواد، افتكّها الطُّغيان من الأيادي ورقنها.عكف يزدري ظلمات الجهل ويستلهم من الوحدة الأنس فيشرب صداقة الكتاب، الطّاولة والكرسيّ. جلس والعقل عجولا شذيا يشحذ من العقول ما فعله البشر كي يزيد من جفاء الصّدر بالوادي النّائم منذ زمن. ملّ النّزول، تاق إلى النجّوم، كلّ من ضيق المكان وعشق الانفلات إلى الفضاء حيث الحلم والآتي... راودته الأحلام، سكنته الخيالات فنهرها الألم والوجع وأصوات الندّاء والبكُاء في الزّوايا والنّوادي ...
رفع الرّأس... ما استطاع ردهّ إلى أرض فقره... الشمس في الّسّماء تسير بتؤدة، تُرسل أشعّة الحياة فيستقبلها البشر كما يستقبلها عبّاد الشّمس أو كما تستقبلها الفراشات، الكلّ يستلذّ نورها ويعبُّ منه حدّ الانفتاح... سارت... اقتربت وجلست فاحترقت عواطفه واشتعلت أحلامه واستيقظت مثلما تستيقظ الأرض بعد دمُوع الشّتاء... أخذ قلمه فما ارتفعت يده، رفع لسانه في حلقه فاجتمعت على أطرافه بعض الكلمات:
- أهذا الوشم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق